الحمد لله:
معنى الحمد:الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال، فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة أم على عطائه وتفضله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل. وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده؛ وقد ثبت أن المدح أعم من الحمد. فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده؛ أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان، فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد؛ أما المدح فقد يكون قبل ذلك فقد تمدح إنساناً ولم يفعل شيئا من المحاسن والجميل ولذا كان المدح منهياً عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احثوا التراب في وجه المداحين" بخلاف الحمد فإنه مأمور به فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يحمد الناس لم يحمد الله". وبذا علمنا من قوله: الحمد لله" أن الله حي له الصفات الحسنى والفعل الجميل فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه ولو قال المدح لله لم يفد شيئا من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح. ولم يقل سبحانه الشكر لله لأن الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية فانك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته وقد تحمده على ذلك وقد جاء في لسان العرب "والحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته.فكان اختيار الحمد أولى أيضاً من الشكر لأنه أعم فانك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك والى الخلق جميعا وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية وان لم يتعلق شيء منها بك. فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه قال: الحمد لله ولم يقل أحمد الله أو نحمد الله وما قاله أولى من وجوه عدة: إن القول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مختص بفاعل معين ففاعل أحمد هو المتكلم وفاعل نحمد هم المتكلمون في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا أولى فإنك إذا قلت " أحمد الله " أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أن غيرك حمده وإذا قلت " نحمد الله " أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده في حين أن عبارة "الحمد لله" لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك. وقول " أحمد الله " تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أن من تحمده يستحق الحمد؛ في حين إذا قلت " الحمد لله" أفاد ذلك استحقاق الحمد لله وليس مرتبط بفاعل معين. وقول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مرتبط بزمن معين لأن الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه، ولا شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله أن يكون مرتبطا بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل فيكون الحمد أقل مما ينبغي فإن حمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين فالحمد فيها مستمر غير منقطع. جاء في تفسير الرازي أنه لو قال " احمد الله " أفاد ذلك كون القائل قادرا على حمده، أما لما قال "الحمد لله" فقد أفاد ذلك، أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم. وقول "أحمد الله" جملة فعلية و"الحمد لله" جملة اسمية والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره. وقول "الحمد لله" معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه فانه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. فقولنا "الحمد لله" معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال "احمد الله" لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحداً حمده. والحمد: عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال. فإذا تلفظ الإنسان بقوله: "أحمد الله" مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع انه ليس كذلك. أما إذا قال "الحمد لله" سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه: أن الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن. فثبت أن قوله "الحمد لله" أولى من قوله أحمد الله أو من نحمد الله. ونظيره قولنا "لا اله إلا الله" فانه لا يدخل في التكذيب بخلاف قولنا "اشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذبا في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" (المنافقون، آية 1) فلماذا لم يقل " الحمدَ لله " بالنصب؟ الجواب أن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب ذلك أن قراءة الرفع تدل على أن الجملة اسمية في حين أن قراءة النصب تدل على أن الجملة فعلية بتقدير نحمد أو احمد أو احمدوا بالأمر. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية لأنها دالة على الثبوت. وقد يقال أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى "احمدوا الحمد لله" كما تقول "الإسراع في الأمر" بمعنى أسرعوا؟ والجواب لا فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لان الأمر بالشيء لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان الحمد لله أولى من الحمد لله بالنصب في الأخبار والأمر. ولماذا لم يقل " حمداً لله " ؟ الحمد لله معرفة بأل و" حمداً " نكرة؛ والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير ذلك أن "أل" قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها. ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله" فدل على استغراق الحمد كله فعلى هذا يكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
"الحمد لله" أهي خبر أم إنشاء؟ الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب. قال أكثر النحاة والمفسرين: أن الحمد لله إخبار كأنه يخبر أن الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال: أنها إنشاء لأن فيها استشعار المحبة وقسم قال: أنها خبر يتضمن إنشاء. أحيانا يحتمل أن تكون التعبيرات خبرا أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه.فعلى سبيل المثال قد نقول (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء وقد نقول (رزقك الله وعافاك) والقصد منها أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أن تستعمل خبرا وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كان نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول الحمد لله. فلماذا لم يقل سبحانه " إن الحمد لله " ؟ لا شك أن الحمد لله لكن هناك فرق بين التعبيرين أن نجعل الجملة خبراً محضا في قول الحمد لله (ستعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه " إن " لا يمكن إلا أن يكون إنشاء، لذا فقول " الحمد لله " أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك. لذا جمعت الحمد لله بين الخبر والإنشاء ومعناهما، مثلا نقول رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول إن رحمة الله عليك فهذا خبر وليس دعاء من المعلوم انه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء)، قد رحمه الله (إخبار)، رزقك الله (دعاء)، قد رزقك الله (إخبار).
لماذا لم يقل سبحانه " لله الحمد " ؟
الحمد الله تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه (مثال: لفلان الكتاب) تقال للتخصيص والحصر فإذا قدم الجار والمجرور على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أن الحمد سيكون لغير الله) الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى، الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل، أما العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى، المقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً وليست مثل ( إياك نعبد ) أو( إياك نستعين ). فقد وردت في القران الكريم (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين) الجاثية (لآية 36)
لا أحد يمنع التقديم لكن التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق، المقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية؛ أما في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أن الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا فهو المحمود الأول لذا جاءت فلله الحمد مقدمة حسب ما اقتضاه السياق العام للآيات في السورة. فلماذا التفصيل في الجاثية (رب السموات والأرض) ولم ترد في الفاتحة؟ في الجاثية تردد ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما فقد جاء في أول السورة ( إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين ) فلو نظرنا في جو سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. (ولله ملك السموات والأرض) يعني هو ربهما ( ويوم تقوم الساعة يخسر المبطلون) إذن هو رب العالمين ( وخلق الله السموات والأرض بالحق) فهو ربهما ( لتجزى كل نفس..) فهو رب العالمين. (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين) جمع الربوبية في السموات والأرض والعالمين في آية واحدة، أما في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين (المؤمنين، الضالين..) لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة. (وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) (الجاثية الآية 37) ولم يذكرالكبرياء في الفاتحة لأنه جاء في الجاثية ذكر المستكبرين بغير حق ( ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم. وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) (الجاثية الآيات 7-9) دل على مظهر من مظاهر الاستكبار لذا ناسب أن يرد ذكر الكبرياء في السموات والأرض. فسبحانه وتعالى يضع الكلام بميزان دقيق بما يتناسب مع السياق العام للآيات.
الحمد لله: جاء سبحانه وتعالى باسمه العلم (الله) ،لم يقل الحمد للخالق أو القدير أو أي اسم آخر من أسمائه الحسنى فلماذا جاء باسمه العلم؟ لأنه إذا جاء بأي اسم آخر غير العلم لدل على انه تعالى استحق الحمد فقط بالنسبة لهذا الاسم خاصة فلو قال الحمد للقادر لفهمت على انه يستحق الحمد للقدرة فقط لكن عند ذكر الذات (الله) فإنها تعني انه سبحانه يستحق الحمد لذاته لا لوصفه. من ناحية أخرى " الحمد لله " مناسبة لما جاء بعدها (إياك نعبد) لأن العبادة كثيرا ما تختلط بلفظ الله. فلفظ الجلالة (الله) يعنى الإله المعبود مأخوذة من أله (بكسر اللام) ومعناها عبد ولفظ الله مناسب للعبادة وأكثر اسم اقترن بالعبادة هو لفظ الله تعالى (أكثر من 50 مرة اقترن لفظ الله بالعبادة في القرآن) لذا فالحمد لله مناسب لأكثر من جهة.
" الحمدُ لله "أولى من قول الحمد للسميع أو العليم أو غيرها من أسماء الله الحسنى. وقول الحمد لله أولى من قول أحمد الله أو الحمدَ لله أو حمداً لله أو إن الحمد لله أو الحمد للحي أو القادر أو السميع أو البصير. جلت حكمة الله سبحانه وتعالى وجل قوله العزيز.
دكتور: محمد راغب النابلسي
معنى الحمد:الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال، فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة أم على عطائه وتفضله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل. وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده؛ وقد ثبت أن المدح أعم من الحمد. فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده؛ أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان، فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد؛ أما المدح فقد يكون قبل ذلك فقد تمدح إنساناً ولم يفعل شيئا من المحاسن والجميل ولذا كان المدح منهياً عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احثوا التراب في وجه المداحين" بخلاف الحمد فإنه مأمور به فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يحمد الناس لم يحمد الله". وبذا علمنا من قوله: الحمد لله" أن الله حي له الصفات الحسنى والفعل الجميل فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه ولو قال المدح لله لم يفد شيئا من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح. ولم يقل سبحانه الشكر لله لأن الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية فانك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته وقد تحمده على ذلك وقد جاء في لسان العرب "والحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته.فكان اختيار الحمد أولى أيضاً من الشكر لأنه أعم فانك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك والى الخلق جميعا وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية وان لم يتعلق شيء منها بك. فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه قال: الحمد لله ولم يقل أحمد الله أو نحمد الله وما قاله أولى من وجوه عدة: إن القول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مختص بفاعل معين ففاعل أحمد هو المتكلم وفاعل نحمد هم المتكلمون في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا أولى فإنك إذا قلت " أحمد الله " أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أن غيرك حمده وإذا قلت " نحمد الله " أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده في حين أن عبارة "الحمد لله" لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك. وقول " أحمد الله " تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أن من تحمده يستحق الحمد؛ في حين إذا قلت " الحمد لله" أفاد ذلك استحقاق الحمد لله وليس مرتبط بفاعل معين. وقول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مرتبط بزمن معين لأن الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه، ولا شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله أن يكون مرتبطا بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل فيكون الحمد أقل مما ينبغي فإن حمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين فالحمد فيها مستمر غير منقطع. جاء في تفسير الرازي أنه لو قال " احمد الله " أفاد ذلك كون القائل قادرا على حمده، أما لما قال "الحمد لله" فقد أفاد ذلك، أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم. وقول "أحمد الله" جملة فعلية و"الحمد لله" جملة اسمية والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره. وقول "الحمد لله" معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه فانه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. فقولنا "الحمد لله" معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال "احمد الله" لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحداً حمده. والحمد: عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال. فإذا تلفظ الإنسان بقوله: "أحمد الله" مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع انه ليس كذلك. أما إذا قال "الحمد لله" سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه: أن الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن. فثبت أن قوله "الحمد لله" أولى من قوله أحمد الله أو من نحمد الله. ونظيره قولنا "لا اله إلا الله" فانه لا يدخل في التكذيب بخلاف قولنا "اشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذبا في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" (المنافقون، آية 1) فلماذا لم يقل " الحمدَ لله " بالنصب؟ الجواب أن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب ذلك أن قراءة الرفع تدل على أن الجملة اسمية في حين أن قراءة النصب تدل على أن الجملة فعلية بتقدير نحمد أو احمد أو احمدوا بالأمر. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية لأنها دالة على الثبوت. وقد يقال أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى "احمدوا الحمد لله" كما تقول "الإسراع في الأمر" بمعنى أسرعوا؟ والجواب لا فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لان الأمر بالشيء لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان الحمد لله أولى من الحمد لله بالنصب في الأخبار والأمر. ولماذا لم يقل " حمداً لله " ؟ الحمد لله معرفة بأل و" حمداً " نكرة؛ والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير ذلك أن "أل" قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها. ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله" فدل على استغراق الحمد كله فعلى هذا يكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
"الحمد لله" أهي خبر أم إنشاء؟ الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب. قال أكثر النحاة والمفسرين: أن الحمد لله إخبار كأنه يخبر أن الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال: أنها إنشاء لأن فيها استشعار المحبة وقسم قال: أنها خبر يتضمن إنشاء. أحيانا يحتمل أن تكون التعبيرات خبرا أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه.فعلى سبيل المثال قد نقول (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء وقد نقول (رزقك الله وعافاك) والقصد منها أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أن تستعمل خبرا وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كان نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول الحمد لله. فلماذا لم يقل سبحانه " إن الحمد لله " ؟ لا شك أن الحمد لله لكن هناك فرق بين التعبيرين أن نجعل الجملة خبراً محضا في قول الحمد لله (ستعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه " إن " لا يمكن إلا أن يكون إنشاء، لذا فقول " الحمد لله " أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك. لذا جمعت الحمد لله بين الخبر والإنشاء ومعناهما، مثلا نقول رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول إن رحمة الله عليك فهذا خبر وليس دعاء من المعلوم انه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء)، قد رحمه الله (إخبار)، رزقك الله (دعاء)، قد رزقك الله (إخبار).
لماذا لم يقل سبحانه " لله الحمد " ؟
الحمد الله تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه (مثال: لفلان الكتاب) تقال للتخصيص والحصر فإذا قدم الجار والمجرور على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أن الحمد سيكون لغير الله) الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى، الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل، أما العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى، المقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً وليست مثل ( إياك نعبد ) أو( إياك نستعين ). فقد وردت في القران الكريم (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين) الجاثية (لآية 36)
لا أحد يمنع التقديم لكن التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق، المقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية؛ أما في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أن الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا فهو المحمود الأول لذا جاءت فلله الحمد مقدمة حسب ما اقتضاه السياق العام للآيات في السورة. فلماذا التفصيل في الجاثية (رب السموات والأرض) ولم ترد في الفاتحة؟ في الجاثية تردد ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما فقد جاء في أول السورة ( إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين ) فلو نظرنا في جو سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. (ولله ملك السموات والأرض) يعني هو ربهما ( ويوم تقوم الساعة يخسر المبطلون) إذن هو رب العالمين ( وخلق الله السموات والأرض بالحق) فهو ربهما ( لتجزى كل نفس..) فهو رب العالمين. (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين) جمع الربوبية في السموات والأرض والعالمين في آية واحدة، أما في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين (المؤمنين، الضالين..) لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة. (وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) (الجاثية الآية 37) ولم يذكرالكبرياء في الفاتحة لأنه جاء في الجاثية ذكر المستكبرين بغير حق ( ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم. وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) (الجاثية الآيات 7-9) دل على مظهر من مظاهر الاستكبار لذا ناسب أن يرد ذكر الكبرياء في السموات والأرض. فسبحانه وتعالى يضع الكلام بميزان دقيق بما يتناسب مع السياق العام للآيات.
الحمد لله: جاء سبحانه وتعالى باسمه العلم (الله) ،لم يقل الحمد للخالق أو القدير أو أي اسم آخر من أسمائه الحسنى فلماذا جاء باسمه العلم؟ لأنه إذا جاء بأي اسم آخر غير العلم لدل على انه تعالى استحق الحمد فقط بالنسبة لهذا الاسم خاصة فلو قال الحمد للقادر لفهمت على انه يستحق الحمد للقدرة فقط لكن عند ذكر الذات (الله) فإنها تعني انه سبحانه يستحق الحمد لذاته لا لوصفه. من ناحية أخرى " الحمد لله " مناسبة لما جاء بعدها (إياك نعبد) لأن العبادة كثيرا ما تختلط بلفظ الله. فلفظ الجلالة (الله) يعنى الإله المعبود مأخوذة من أله (بكسر اللام) ومعناها عبد ولفظ الله مناسب للعبادة وأكثر اسم اقترن بالعبادة هو لفظ الله تعالى (أكثر من 50 مرة اقترن لفظ الله بالعبادة في القرآن) لذا فالحمد لله مناسب لأكثر من جهة.
" الحمدُ لله "أولى من قول الحمد للسميع أو العليم أو غيرها من أسماء الله الحسنى. وقول الحمد لله أولى من قول أحمد الله أو الحمدَ لله أو حمداً لله أو إن الحمد لله أو الحمد للحي أو القادر أو السميع أو البصير. جلت حكمة الله سبحانه وتعالى وجل قوله العزيز.
دكتور: محمد راغب النابلسي
0 التعليقات:
إرسال تعليق