جزء من مقال للدكتور رشاد البيومي
أما داخل السجن فهذه هي حكايتي معه.. بعد الحكم على الأستاذ سيد رُحِّل إلى ليمان طرة ومنها إلى مستشفى الليمان؛ حيث قضى مدة سجنه كاملة، أما أنا فقد رُحلت إلى سجن أسيوط ومنها إلى الواحات، ولذا لم ألتق بالأستاذ سيد على الإطلاق؛ فقد أُفرج عنه وأنا لا زلت في السجن، وتم إعدامه وأنا لا زلت في المعتقل بعد أن قضيت مدة سجني.
ولكني صادفت بعضًا من الذين خالطوا الأستاذ سيد وعاشوا معه، منهم المسجونون العاديون ومنهم الإخوان، وعرفت الكثير عنه وعن خصاله وأفعاله وسلوكه.
فقد قال المسجونون (الذين كانوا من عتاة المجرمين): رحم الله الأستاذ سيد قطب فقد عرَّفنا بحقيقة أنفسنا وبحق الله علينا، وعلَّمنا كيف نعبده في السر والعلن، ويكفينا أن نقول إنه كان نموذجًا للمسلم العف النبيل الصادق مع نفسه ومع الناس والقدوة الصالحة والمثل الطيب.
أما من التقيتهم من الإخوان فهم صنفان؛ الأول: وهم الأغلب وهم الذين رُحلوا لليمان للعلاج أو ممن كانوا يترددون عليه، فقد كانوا يذكرون الرجل بكل خير ولم يأخذوا على الرجل ما يخرج به عن خط الجماعة الذي أسسه وأرسى قواعده وأصوله إمامنا الشهيد حسن البنا.
والصنف الآخر وهم قلة، وأشهد أني عايشتهم قبل أن يتعرفوا على الأستاذ سيد، وكانوا بطبيعتهم متشددين وكان لهم من مواقفهم ما يشير إلى هذه الخصال، فما أن التقوا بالأستاذ سيد حتى فسروا أفكاره وآراءه على ما ترتضيه نفوسهم وتوجهاتهم، وقد وصفهم الأستاذ سيد بما سيرد في سياق كلامي.
والشاهد على ذلك أنه في ليلة الثالث عشر من رمضان عام 1960م تم ترحيل 62 أخًا من سجن المحاريق إلى سجن القناطر الخيرية (حيث تم ترحيل إخوان ليمان طرة بعد المذبحة التي حدثت عام 58)، وبعد فترة جاءتني رسالة من الأخ جلال عبد العزيز- رحمه الله- يذكر فيها أن هناك بعض أفراد الإخوان (وهم من المتشددين الذين ذكرتهم آنفًا) يتحدثون عن فكر الجاهلية والتكفير واعتزال المجتمع، بما يتنافى تمامًا ويتعارض مع فكر الإخوان الذي استقيناه عن قائدنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرسناه في مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا، وينسبون هذا الكلام للأستاذ سيد قطب.
عرضت الرسالة فورًا على الأستاذ عبد العزيز عطية والذي بدوره تدارسها مع إخوانه أعضاء مكتب الإرشاد (الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ الشيخ أحمد شريت والأستاذ محمد حامد أبو النصر)، وانتهى الجميع إلى أنه من الواجب سؤال الأستاذ سيد قطب عن صحة ما ورد وحقيقة تلك الأفكار التي ينادي بها البعض، وأُرسلت له رسالة بهذا المعنى، وجاء الرد من الأستاذ سيد منكرًا أن يكون قد ورد على لسانه تصريحًا أو تلميحًا بهذا الذي وصلنا وختم ذلك بعبارته الشهيرة: "لقد حُملت أفكاري على حمار أعرج".
لكن تلك المجموعة بقيت على قناعة بتفسير كلام الأستاذ سيد بما يتفق مع طبيعتهم وأهوائهم حتى كانت محنة 65، والتقينا في سجن مزرعة طرة وظلت هذه المجموعة على حالها وانضم إليهم الأستاذ محمد قطب (الذي لم يكن فرد في الجماعة)، وبعد إذن من الأستاذ المرشد حسن الهضيبي وكان معنا المرحوم رفعت الصياد زوج ابنة أخت الأستاذ سيد وعديل رأس هذه المجموعة، حاولنا إثناء هذه المجموعة عن التزام هذا الفكر المدمر، والبعيد كل البعد عن منهج الإخوان وصدق توجهاتهم، وبعد صولات وجولات زاد تمسك هؤلاء بفكرهم فصدر قرار الجماعة بفصلهم (21 فردًا منهم الأستاذ محمد قطب).
وأُضيف لما سبق وما تعلمناه في مدرسة الإخوان أن ولاءنا للفكر الإسلامي الشامل الصحيح، قبل أن يكون مرتبطًا وتابعًا لفرد أيًّا كان مقامه وكيانه.
حكاية أخرى عن الأستاذ سيد قطب، سمعتها بأذني من المرحوم المستشار مأمون الهضيبي المرشد السادس للجماعة، وهو أحد الذين ساهموا في كتابة كتاب (دعاة لا قضاة)، وكان ذلك قبل وفاته بأيام.
قال رحمه الله إنه قد حوكم عام 56 وحُكم عليه بالسجن، كما حُكم على الشهيد سيد قطب بالإعدام، وفي أحد الأيام (وهم في السجن الحربي) حضر أحد المسئولين بالسجن ونادى على الأستاذ سيد قائلاً: استعد للترحيل، فطلب منه الأستاذ سيد إمهاله حتى يجمع الأدوية الخاصة به، فردَّ عليه المسئول سوف لا تكون في حاجة إلى أدوية، وهنا أيقن الأستاذ سيد أن الأجل قد حان وكان باب الزنزانة مفتوحًا فاندفع متوجهًا للأستاذ مأمون في عجل قائلاً له: بلِّغ الأستاذ المرشد (حسن الهضيبي) أني لم أكفر أحدًا، وأني على العهد مع جماعتي حتى ألقى الله.
وأحسب أن أغلب من ذكرت في مقالي هذا في دار الحق، وأعلن (ابتغاء مرضاة الله) دقة كل حرف في كل كلمة ذكرتها، وهذه شهادتي في حق هذا الرجل الذي ظلم حيًّا وميتًا.
يكفي أن أذكر أنه بُذلت محاولات كي يقوم الأستاذ سيد بكتابة طلب للعفو عنه، مع التأكيد بأنه سوف يُستجاب لطلبه، ولكنه قال: "ما كان لهذه اليد التي كتبت لله أن تكتب للظالم تطلب عفوه".
------------
* نائب المرشد العام للإخوان المسلمين