الأربعاء، 19 يناير 2011

د. عمرو عبد الكريم يكتب: القوانين العشر في الاحتجاجات الاجتماعية

لم يكن الشاب التونسي محمد البوعزيزي (رحمه الله) يتخيل وهو يشعل النار في جسده احتجاجا على ظلم السلطة له أنه يشعل النار في جسد نظام استبدادي تهاوى تحت مطارق الاحتجاجات الاجتماعية المتواصلة في مختلف محافظات تونس حتى اشتعلت النيران في العاصمة فلم يجد الرئيس مفرًا إلى الهرب لا يدري إلى أين.

ولم يقنع ظهور الرئيس مرتين على شاشات التليفزيون (مرة مهددا متوعدا ومرة واعدا متفهما) الشعب بأنه يستطيع تجاوز الأزمة وإن ضحى ببعض رموز الفساد والشخصيات، كوزير الداخلية أو بعض المستشارين أو ادعى أنه تفهم رسالة الشعب أو أدرك أسباب الاحتجاج، وذلك لعلم الشعب اليقيني أن مركز الفساد إنما هو في رأس النظام ذاته ودائرته الضيقة (زوجة الرئيس وعائلتها، وصهره (زوج ابنته)، تلك المافيا التي أمعنت في النهب المنظم لمقدرات لشعب التونسي الشحيحة من الأساس، واستنزاف موارد الدولة على قلتها).

لقد اختزل نظام ابن علي نفسه في قبضة أمنية حديدية -هكذا كان يبدو للناس وهكذا تبدو كل النظم المستبدة- قمعت الشعب وأنهكته ماديا ونفسيا حتى صار الشعب التونسي أكثر الشعوب العربية هلعا من نظامه. وتميز نظام الفساد هذا بتزاوج شديد بين السلطة ورأس المال حتى درجة الانصهار فصاروا أصهارا.

قالها شاعر تونس الكبير أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، وطبقها شعب تونس العظيم تطبيقا عمليا وكان نعم المعلم: أراد الحياة فاستجاب القدر.

لم تذهلهم رصاصات القنّاصة من على أسطح المنازل، ولم يثنهم سقوط الشهداء المتوالي، ولم يخفهم إعلان حالة الطوارئ، ولم تعمهم سطوة المعادلات الإقليمية ولا الدعم الغربي للنظام الذي عادى دين الشعب جهارا نهارا واعتبره تخلفا ورجعية وعمل على زعزعة هوية شعبه في محاربته للصلاة وللمساجد والصيام والحجاب وحارب أي مظهر من مظاهر التدين (ليس الجماعي والحركي بل حتى الفردي والخيري).

نظام آسف الله فانتقم منه فيما يقرب من شهر في عمليات احتجاج اجتماعي متواصل استشهد فيها العشرات من أبناء تونس وكان استشهادهم مشاعل نور وحرية أضاءت طريق الشعب نحو اعتاقه من نظام سياسي فاق الاحتلال سوءً.

دروسا كثيرة علمتها ثورة تونس لكل الشعوب العربية وغيرها من شعوب الأرض، ولعل أهمها أن انتصار الشعب ورحيل الطاغية هو من نتاج قوانين الاحتجاج الاجتماعي المتواصل. فكما أن للكون سننا ونواميس وقوانين لا تتبدل ولا تتغير كذلك للمجتمعات وللأنفس سننا ونواميس وقوانين لا تتبدل ولا تتغير، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. فالثبات (عدم التبدّل وعدم التحوّل) من أهم خصائص السنن والنواميس سواء في الكون والآفاق أو في الاجتماع الإنساني والأنفس.

والبحث أو الكشف عن هذه السنن والنواميس هي ما يجعلنا نفهم قوانين الاحتجاج الاجتماعي وهي أول سبل الانعتاق من تلك النظم السياسية التي أذاقت شعوبها الذل ألوانا، وعلمتها السير على كل الحبال وأجبرتها على السير جنب الحائط حينا، وأحيانا أكثر داخل الحائط، وأقنعتها أن للحائط آذانا تسمع من كثرة الجواسيس وعمليات المراقبة الدائمة للهمسات وللحركات (فكرية وسياسية) حتى أغلق الناس أفواههم وصكوا آذانهم وقطعوا ألسنتهم، وتلاشت آمالهم في التحرر من الاستبداد الجاثم على صدورهم.

لقد كشف رحيل ابن علي (ليس المفاجئ بل المتوقع لمن عنده علم من الكتاب بقوانين الآفاق والأنفس) عن عشر قوانين في نجاح الاحتجاجات الاجتماعية:

أول هذه القوانين أن التغيير الاجتماعي ليس شرطا له وجود تنظيمات حركية (سياسية واجتماعية) وهذه التنظيمات التي تقتات على أفرادها وعلى المجتمع بحجة أن التنظيم من ضرورات التغيير (وما لا يتم الواجب به فهو واجب) هي تنظيمات تستمد وجودها من ضعف المعارف لدى الجماهير، وتعيش حالة من حالات الصراع مع النظم الحاكمة في قضايا تخصهما ولا تخص الشعوب نفسها.

ثاني هذه القوانين أن التغيير يمكن أن تحدثه احتجاجات اجتماعية سلمية متواصلة ليس شرطا فيها حمل السلاح ولا استخدام العنف ولا السيطرة على الجيش والشرطة، فلم يكن السلاح هو الذي حسم اختيار بن علي في الهروب، بل كان نزول الجيش للشوارع كفيلا إلى حد ما بقمع الاحتجاجات لكن كان عزم الشعب على بلوغ طريق التحرر منتهاه والخروج من نفق الظلم المظلم هو الذي جعل من بيده السلاح يلقيه ويهرب حتى وإن كان لا يعرف إلى أين.

كان السلاح كجبل ابن نوح الذي لم يعصمه من الماء، كما لم يعصم الرئيس من ماء الاحتجاجات الاجتماعية السلمية المتواصلة التي حسمت خيارها في رحيل الطاغية وأركان نظام الفساد وضبطت بوصلتها على ضرورة الخلاص.

ثالث هذه القوانين أن عاصمة الدولة ليست شرطا أن تكون هي التي تقود التغيير، فلقد بدأت نار الاحتجاجات في الاشتعال أكثر خارج العاصمة وتزايدت رقعة الاشتعال حتى اتسعت على قدرات القمع وربما كان هذا الاتساع هو من حيّد آلة البطش الرهيبة لقدرات الدولة القمعية.

رابع هذه القوانين هو عدم رفع الاحتجاجات أي شعارات أو لافتات أيديولوجية أو دينية أو فكرية ذات توجه معين، بل شعارات مطلبية تعبّر عن احتياجات الناس العادية: الخبز والماء والشغل والسكن ومحاربة البطالة والغلاء، وأفاد رفع الشعارات المطلبية عدة أمور:

- أهمها: أنه لو كانت الشعارات المرفوعة ذات توجه إسلامي لحملت مطالبهم على أنها حركة إرهابية، كان للنظام أن يستعين بالغرب والعالم للقضاء عليها.

الأمر الثاني: هو عدم انقسام حركة الاحتجاج على خلفية الشعارات المرفوعة وعلى كونها تعبر عن تيارات فكرية معينة وربما استهلكتها الصراعات الداخلية بين التيارات والتوجهات، وإذا انقسمت الحركة الاحتجاج المطلبية سهل القضاء عليها.

الأمر الثالث: أن رفع شعارات مطلبية يفيد في جمع الناس على المتفق عليه من القضايا، وهو ما يعبر عن هموم الناس العادية التي تمشي في الأسواق وتأكل الطعام وتحتاج إلى ضرورات العيش: المأكل والمشرب والسكن والعمل والأمن. وهو ما يمثل الحد الأدنى للحياة الكريمة، كان الشعار المرفوع هو: "خبز وماء بن علي بلاء" ويمكن لكل شعب عربي (إلا ما رحم الله وقليل ما هم) أن يحذف أو يشطب اسم بن علي من الشعار ويضع اسم رئيسه وسيظل الشعار على فعاليته الكبيرة في تحريك الشعب وسيمكنه من مواجهة قدرات النظام القمعية.

خامس هذه القوانين أن الشعوب كثيرا ما تتجاوز النخب الفكرية والسياسية: نضجا وإدراكا، وإن تميز النخب ليس له دائما ما يبرره، وأن الاستعلاء الذي تبديه النخب ليس دائما في محله. وعلى تلك النخب أن تبدي كثيرا من الاحترام للجماهير وتوجهاتها ومطالبها واحتياجاتها، والاحتجاج الاجتماعي الناجح هو من يتبع احتياجات الجماهير الحقيقية ويعبر عنها ويضبط بوصلتها عليها.

سادس هذه القوانين أن الأمم صاحبة التاريخ والشعوب الحيّة ذات الحضارة لا تموت، قد تمرض وقد تضعف وقد يخفت صوتها، قد تضعف عزيمتها لكن لا تزول خمائر النهوض في مكنونها وضمائر أبنائها، وخمائر النهوض هذه هي أهم دعائم نهضات الأمم في صحوتها.

سابع هذه القوانين أن الشعب حينما يحسم خياراته ولا يبقى لديه ما يحرص عليه لا توقفه القبضات الأمنية الغاشمة ولا الدعم الغربي لنظم الاستبداد التي تحمي مصالحه، فلن يقدر أحد في العالم على حماية نظام بلغ صبر شعبه عليه منتهاه، ولم يعد عند الشعب ما يخسره، فتخرج الناس إلى الشوارع وتتواصل الاحتجاجات حتى يسقط الطغاة.

ثامن هذه القوانين هما نظريتان تحكمان إلى حد كبير سلوك النظم السياسية المستبدة وردود أفعال الشعوب وهما: نظرية الدومينو، أي أن سقوط قطعة من قطع الدومينو يؤدي إلى السقوط المتتابع لبقية القطع، ومعناها هنا أن نجاح التغيير في دولة يوفر البيئة الداعمة معنويا ونفسيا إلى امتداد التأثير في بقية الدول المجاورة.

ونظرية الأواني المستطرقة التي تقول: إننا عندما نضع سائلا في مجموعة أوانٍ متصلة فإنّ المستوى الأعلى للسائل يكون متساويا في هذه الأواني جميعا، حتى وإن اختلفت الأواني أشكالا وأحجاما، إذ يعود تساوي المستوى الأعلى للسائل في هذه الأواني إلى أنّ الضغط الواقع على السائل متساو.

ويمكن نقل دلالات النظريتين من المجال الفيزيائي والمادي إلى المجال الاجتماعي والنفسي بشيء من التطويع، فتداعيات التغيير بتأثيرات نظرية الدومينو أو انتقال العدوى بفعل نظرية الأواني المستطرقة مفهوم، وهي متواليات يسلم بعضها لبعض.

ونطاق تطبيق النظرية الأولى أوضح ما يكون داخل المنطقة. أما الثانية فأوضح ما تكون داخل محافظات الدولة ذاتها.

وبذلك نستطيع أن نفهم كثيرا من مواقف النظم من احتجاجات الشعوب خوفا من تداعياتها أو التجاوب الوقتي مع المطالب الاجتماعية، (قامت ليبيا والأردن بالتراجع عن رفع أسعار بعض المواد الغذائية والمواد التي يكثر الاحتياج الجماهيري إليها).

تاسع هذه القوانين وهو ما يعمل على نجاح حركة التغيير وذلك بالتركيز على التزاوج بين السلطة الفاسدة والمال الحرام المجموع من قوت الشعوب وعرقها، وستجد الشعوب العربية في نظمها السياسية إلا ما رحم الله ما نسميه "متلازمة النظم العربية" وهي حكم أبدي حتى الموت، رافعا شعار الاستمرار ما دام في القلب نبض، ثم مشروع توريث قائم على قدم وساق يجمع الأعوان ويجيش الشرائح المختلفة رافعا شعار الاستقرار، وما بين شهوات الاستمرار وشبهات الاستقرار ضاعت بلاد العُرْب.

نظم تشابهت على المحللين السياسيين تشابه الظواهر الكونية فما عادوا يعرفون عن أي نظام يتحدثون، كلهم يرتب أموره على التمديد حتى آخر رمق، وعلى التوريث للابن أو الأخ ويعملون على خلق أنصار ومستفيدين من تلك الأوضاع المقلوبة والشائهة. فهي في جوهرها نظم استئصالية لا تسمع بالمعارضة ولا تقبل بها ولا تحترم خيارات الشعوب ولا رغبتها في العيش الكريم.

عاشر هذه القوانين هو إدراك دور الإعلام الحديث ووسائله غير التقليدية في إنجاح حركة الاحتجاج الاجتماعي ونقل صوتها وصورتها إلى عموم أقاليم الدولة ذاتها وخارج حدودها.

قديما أشعلت ثورة الكاسيت النيران في إيران الشاه، وبعد ذلك نجحت الثورات البرتقالية في تغيير وجه بلادها بآلة إعلامية فاعلة وإن كان بمساعدة غربية مفهومة، لكن يظل القانون فعالا وفاعلا وهو أن احتجاج اجتماعي متواصل مخدوم إعلاميا بحرفية وبمهارة مستخدما الأدوات الحديثة قادر أن يغير وجه البلاد، وإذا كان العسكريون يقولون: المعارك على الأرض، فإن معارك اليوم هي في وسائل الإعلام تقليدية وحديثة، مؤسسية وشخصية، وأصبحت المعارك في الفضاء الكوني.

وأضحت أسلحة اليوم هي: القنوات الفضائية والإنترنت والمدونات الشخصية وكاميرات التليفونات المحمولة، والأدوات الحديثة التي سهلت التواصل بين البشر من جهة وغلّت يد الحكومات التي لم تعد تستطيع أن تفعل بشعوبها ما تريد من جهة أخرى.

من خير الكلام:

يقول شاعر تونس الكبير أبو القاسم الشابي:

إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ

فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر

وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي

وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ

تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر

0 التعليقات:

الحقوق محفوظة لـ - مدونة الخليفة والشهيد | الإخوان المسلمون